سورة الفتح - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفتح)


        


{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)}
واعلم أنه قدم المنافقين على المشركين في الذكر في كثير من المواضع لأمور أحدها: أنهم كانوا أشد على المؤمنين من الكافر المجاهر لأن المؤمن كان يتوقى المشرك المجاهر وكان يخالط المنافق لظنه بإيمانه، وهو كان يفشي أسراره، وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك والمنافق على صورة الشيطان فإنه لا يأتي الإنسان على أني عدوك، وإنما يأتيه على أني صديقك، والمجاهر على خلاف الشيطان من وجه، ولأن المنافق كان يظن أن يتخلص للمخادعة، والكافر لا يقطع بأن المؤمن إن غلب يفديه، فأول ما أخبر الله أخبر عن المنافق وقول: {الظانين بالله ظَنَّ السوء} هذا الظن يحتمل وجوهاً أحدها: هو الظن الذي ذكره الله في هذه السورة بقوله: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول} [الفتح: 12] ثانيها: ظن المشركين بالله في الإشراك كما قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ} إلى أن قال: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} [النجم: 23 28] ثالثها: ظنهم أن الله لا يرى ولا يعلم كما قال: {ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: 22] والأول أصح أو نقول المراد جميع ظنونهم حتى يدخل فيه ظنهم الذي ظنوا أن الله لا يحيي الموتى، وأن العالم خلقه باطل، كما قال تعالى: {ذلك ظَنُّ الذين كَفَرُواْ} [ص: 27] ويؤيد هذا الوجه الألف واللام الذي في السوء وسنذكره في قوله: {ظَنَّ السوء} وفيه وجوه:
أحدها: ما اختاره المحققون من الأدباء، وهو أن السوء صار عبارة عن الفساد، والصدق عبارة عن الصلاح يقال مررت برجل سوء أي فاسد، وسئلت عن رجل صدق أي صالح، فإذا كان مجموع قولنا رجل سوء يؤدي معنى قولنا فاسد، فالسوء وحده يكون بمعنى الفساد، وهذا ما اتفق عليه الخليل والزجاج واختاره الزمخشري، وتحقيق هذا أن السوء في المعاني كالفساد في الأجساد، يقال ساء مزاجه، وساء خلقه، وساء ظنه، كما يقال فسد اللحم وفسد الهواء، بل كان ما ساء فقد فسد وكل ما فسد فقد ساء غير أن أحدهما كثير الاستعمال في المعاني والآخر في الأجرام قال الله تعالى: {ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر} [الروم: 41] وقال: {سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: 9] هذا ما يظهر لي من تحقيق كلامهم.
ثم قال تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء} أي دائرة الفساد وحاق بهم الفساد بحيث لا خروج لهم منه.
ثم قال تعالى: {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} زيادة في الإفادة لأن من كان به بلاء فقد يكون مبتلى به على وجه الامتحان فيكون مصاباً لكي يصير مثاباً، وقد يكون مصاباً على وجه التعذيب فقوله: {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} إشارة إلى أن الذي حاق بهم على وجه التعذيب وقوله: {وَلَعَنَهُمُ} زيادة إفادة لأن المغضوب عليه قد يكون بحيث يقنع الغاضب بالعتب والشتم أو الضرب، ولا يفضي غضبه إلى إبعاد المغضوب عليه من جنابه وطرده من بابه، وقد يكون بحيث يفضي إلى الطرد والإبعاد، فقال: {وَلَعَنَهُمُ} لكون الغضب شديداً، ثم لما بيّن حالهم في الدنيا بيّن مآلهم في العقبى قال: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} وقوله: {سَاءتْ} إشارة لمكان التأنيث في جهنم يقال هذه الدار نعم المكان، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السموات والأرض} [الفتح: 4] قد تقدم تفسيره، وبقي فيه مسائل:
المسألة الأولى: ما الفائدة في الإعادة؟ نقول لله جنود الرحمة وجنود العذاب أو جنود الله إنزالهم قد يكون للرحمة، وقد يكون للعذاب فذكرهم أولى لبيان الرحمة بالمؤمنين قال تعالى: {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً} [الأحزاب: 43] وثانياً لبيان إنزال العذاب على الكافرين.


المسألة الثانية: قال هناك {وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح: 4] وهنا {وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} لأن قوله: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السموات والأرض} [الفتح: 4] قد بينا أن المقصود من ذكرهم الإشارة إلى شدة العذاب فذكر العزة كما قال تعالى: {أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ ذِي انتقام} [الزمر: 37] وقال تعالى: {فأخذناهم أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 42] وقال تعالى: {العزيز الجبار} [الحشر: 23].
المسألة الثالثة: ذكر جنود السموات والأرض قبل إدخال المؤمنين الجنة، وذكرهم هاهنا بعد ذكر تعذيب الكفار وإعداد جنهم، نقول فيه ترتيب حسن لأن الله تعالى ينزل جنود الرحمة فيدخل المؤمنين مكرمين معظمين الجنة ثم يلبسهم خلع الكرامة بقوله: {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم} [الفتح: 5] كما بينا ثم تكون لهم القربى والزلفى بقوله: {وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً} وبعد حصول القرب والعندية لا تبقى واسطة الجنود فالجنود في الرحمة أولاً ينزلون ويقربون آخراً وأما في الكافر فيغضب عليه أولاً فيبعد ويطرد إلى البلاد النائية عن ناحية الرحمة وهي جهنم ويسلط عليهم ملائكة العذاب وهم جنود الله كما قال تعالى: {عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6] ولذلك ذكر جنود الرحمة أولاً والقربة بقوله عند الله آخراً، وقال هاهنا {غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمُ} وهو الإبعاد أولاً وجنود السموات والأرض آخراً.


{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)}
قال المفسرون: {شاهدا} على أمتك بما يفعلون كما قال تعالى: {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] والأولى أن يقال إن الله تعالى قال: {إِنَّا أرسلناك شَاهِداً} وعليه يشهد أنه لا إله إلا الله كما قال تعالى: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} [آل عمران: 18] وهم الأنبياء عليهم السلام، الذين آتاهم الله علماً من عنده وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، ولذلك قال تعالى: {فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلا الله} [محمد: 19] أي فاشهد وقوله: {وَمُبَشِّراً} لمن قبل شهادته وعمل بها ويوافقه فيها {وَنَذِيرًا} لمن رد شهادته ويخالفه فيها ثم بيّن فائدة الإرسال على الوجه الذي ذكره فقال: {لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} وهذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون الأمور الأربعة المذكورة مرتبة على الأمور المذكورة من قبل فقوله: {لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} مرتب على قوله: {إِنَّا أرسلناك} لأن كونه مرسلاً من الله يقتضي أن يؤمن المكلف بالله والمرسل وبالمرسل وقوله: {شاهدا} يقتضي أن يعزر الله ويقوي دينه لأن قوله: {شاهدا} على ما بينا معناه أنه يشهد أنه لا إله إلا هو فدينه هو الحق وأحق أن يتبع وقوله: {مُبَشِّرًا} يقتضي أن يوقر الله لأن تعظيم الله عنده على شبه تعظيم الله إياه. وقوله: {نَذِيراً} يقتضي أن ينزه عن السوء والفحشاء مخافة عذابه الأليم وعقابه الشديد، وأصل الإرسال مرتب على أصل الإيمان ووصف الرسول يترتب عليه وصف المؤمن وثانيهما: أن يكون كل واحد مقتضياً للأمور الأربعة فكونه مرسلاً يقتضي أن يؤمن المكلف بالله ورسوله ويعزره ويوقره ويسبحه، وكذلك كونه {شاهدا} بالوحدانية يقتضي الأمور المذكورة، وكذلك كونه {مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} لا يقال إن اقتران اللام بالفعل يستدعي فعلاً مقدماً يتعلق به ولا يتعلق بالوصف وقوله: {لّتُؤْمِنُواْ} يستدعي فعلاً وهو قوله: {إِنَّا أرسلناك} فكيف تترتب الأمور على كونه {شَاهِداً وَمُبَشِّراً} لأنا نقول يجوز الترتيب عليه معنى لا لفظاً، كما أن القائل إذا قال بعثت إليك عالماً لتكرمه فاللفظ ينبئ عن كون البعث سبب الإكرام، وفي المعنى كونه عالماً هو السبب للإكرام، ولهذا لو قال بعثت إليك جاهلاً لتكرمه كان حسناً، وإذا أردنا الجمع بين اللفظ والمعنى نقول: الإرسال الذي هو إرسال حال كونه شاهداً كما تقول بعث العالم سبب جعله سبباً لا مجرد البعث، ولا مجرد العالم، في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال في الأحزاب {إِنَّا أرسلناك شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} [الأحزاب: 45، 46] وهاهنا اقتصر على الثلاثة من الخمسة فما الحكمة فيه؟ نقول الجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن ذلك المقام كان مقام ذكره لأن أكثر السورة في ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وأحواله وما تقدمه من المبايعة والوعد والدخول ففصل هنالك، ولم يفصل هاهنا ثانيهما: أن نقول الكلام مذكور هاهنا لأن قوله: {شاهدا} لما لم يقتض أن يكون داعياً لجواز أن يقول مع نفسه أشهد أن لا إله إلا الله، ولا يدعو الناس قال هناك وداعياً لذلك، وهاهنا لما لم يكن كونه {شاهدا} منبئاً عن كونه داعياً قال: {لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} دليل على كونه سراجاً لأنه أتى بما يجب من التعظيم والاجتناب عما يحرم من السوء والفحشاء بالتنزيه وهو التسبيح.
المسألة الثانية: قد ذكرنا مراراً أن اختيار البكرة والأصيل يحتمل أن يكون إشارة إلى المداومة، ويحتمل أن يكون أمراً بخلاف ما كان المشركون يعملونه فإنهم كانوا يجتمعون على عبادة الأصنام في الكعبة بكرةً وعشية فأمروا بالتسبيح في أوقات كانوا يذكرون فيها الفحشاء والمنكر.
المسألة الثالثة: الكنايات المذكور في قوله تعالى: {وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ} راجعة إلى الله تعالى أو إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؟ والأصح هو الأول.


{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)}
لما بيّن أنه مرسل ذكر أن من بايعه فقد بايع الله، وقوله تعالى: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يحتمل وجوهاً، وذلك أن اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنى واحد، وإما أن تكون بمعنيين، فإن قلنا إنها بمعنى واحد، ففيه وجهان:
أحدهما: {يَدُ الله} بمعنى نعمة الله عليهم فوق إحسانهم إلى الله كما قال تعالى: {بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ للأيمان} [الحجرات: 17] وثانيهما: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} أي نصرته إياهم أقوى وأعلى من نصرتهم إياه، يقال: اليد لفلان، أي الغلبة والنصرة والقهر.
وأما إن قلنا إنها بمعنيين، فنقول في حق الله تعالى بمعنى الحفظ، وفي حق المبايعين بمعنى الجارحة، واليد كناية عن الحفظ مأخوذ من حال المتبايعين إذا مد كل واحد منهما يده إلى صاحبه في البيع والشراء، وبينهما ثالث متوسط لا يريد أن يتفاسخا العقد من غير إتمام البيع، فيضع يده على يديهما، ويحفظ أيديهما إلى أن يتم العقد، ولا يترك أحدهما يترك يد الآخر، فوضع اليد فوق الأيدي صار سبباً للحفظ على البيعة، فقال تعالى: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يحفظهم على البيعة كما يحفظ ذلك المتوسط أيدي المتبايعين، وقوله تعالى: {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} أما على قولنا المراد من اليد النعمة أو الغلبة والقوة، فلأن من نكث فوت على نفسه الإحسان الجزيل في مقابلة العمل القليل، فقد خسر ونكثه على نفسه، وأما على قولنا المراد الحفظ، فهو عائد إلى قوله: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} يعني من يبايعك أيها النبي إذا نكث لا يكون نكثه عائداً إليك، لأن البيعة مع الله ولا إلى الله، لأنه لا يتضرر بشيء، فضرره لا يعود إلا إليه. قال: {وَمَنْ أوفى بِمَا عاهد عَلَيْهِ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} وقد ذكرنا أن العظم في الأجرام، لا يقال إلا إذا اجتمع فيه الطول البالغ والعرض الواسع والسمك الغليظ، فيقال في الجبل الذي هو مرتفع، ولا اتساع لعرضه جبل عال أو مرتفع أو شاهق، فإذا انضم إليه الاتساع في الجوانب يقال عظيم، والأجر كذلك، لأن مآكل الجنة تكون من أرفع الأجناس، وتكون في غاية الكثرة، وتكون ممتدة إلى الأبد لا انقطاع لها، فحصل فيه ما يناسب أن يقال له عظيم والعظيم في حق الله تعالى إشارة إلى كماله في صفاته، كما أنه في الجسم إشارة إلى كماله في جهاته.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8